الإلهة الأنثى عشتروت... مؤسسة المدن!
*الدكتورة فيفيان حنا الشويري
تبوأت الأنثى في التاريخ المراكز الرفيعة، ووصلت إلى مصافي الآلهة، ونسجت حولها الروايات والقصص والملاحم والأساطير الرائعة، ودخلت الميثولوجيا من الأبواب العريضة، ولعل الآلهة عشتروت، مثلا في هذا المجال، ما يعزز دور المرأة وعلى مر التاريخ، وإن كانت العصور التالية قد حجمتها إلى حد كبير.
فقد ارتبطت عشتروت أو عشتار بصفات عدة ومنها أنها مؤسّسة المدن، ففي سياق تمجيد عشتار لنفسها في أحد النصوص تقول: "أو لست الملكة، سيدة أوروك"، وهي المدينة التي ارتبط اسمها بالبطل غلغامش، والتي يتواجد فيها معبد "الإيانا" أو "بيت السماء" لآنو، وهي مدينتها التي جلبت لها أسس السلطة والحضارة؛ وتقول أولست الملكة، سيدة "زابالام" و"زابالام" مدينة سومرية قديمة تقع شمالي "أوروك" على بعد حوالي 80 كم، وكأنه اعتراف منها بتأسيس تلك المدينة على غرار "أوروك"، وتضيف عشتار أيضا: أولست ملكة "خورساج كالاما" وهي مدينة "كيش" القريبة من بابل.
ومن خلال النصوص الرافدية، تتوضّح الأدوار التي لعبتها عشتار على صعيد تأسيس المدينة والتي ارتبط اسمها ووظائفها بها طيلة المراحل التاريخية، بحيث لم يقتصر ارتباط اسم عشتار بالمدينة على بلاد ما بين النهرين، فهي عشتار، إلهة المدينة ( déesse-poliade) وحارستها والعين الساهرة على ناسها وعلى أحوالهم الدنيوية كما الدينية والعسكرية والتشريعية؛ وهي "عشتار المبرّجة"، وإذا عُدنا الى النص الأكادي "نزول عشتار الى العالم السفلي" والذي اكتشف في مكتبة "آشور بانيبال" في نينوى، سنة ( 1865 ق.م.) ويتألف من 138 سطراً، نقع على شاهد مدوّن على حملها التاج المبرّج، فعند وصولها طلبت من حارس الباب أن يفتح لها، فردّ عليها أن تنتظر بعض الشيء لكي يُعلم "أيريشكيجال"، ملكة العالم السفلي، فسمحت له بإدخالها، فبمجرد أن أدخلها من الباب الأول نزع عن رأسها التاج الكبير وصادره.
ويدور النص حول حملها على رأسها برج المدينة أو معبدها أو سورها، كما يظهره فن النحت، وفيها رموز ومعان ذات صلة بدورها كمؤسسة المدينة وصاحبتها ومالكة كل صروحها ومنشآتها وهذا ما يعزّز الدور التأسيسي للمرأة، منذ فجر التاريخ، أكدته الحضارة الرافدية ومنها انتقل الى باقي الثقافات المجاورة المعاصرة منها وحتى اللاحقة، بل ورثته الثقافات المشرقية كافة (اللات النبطية العربية وأتراغيتس السورية Atargatis)، وعشتار البعلبكية والفينيقية الجبيلية، حيث يتأكد من العديد من الوثائق التاريخية المتعلقة بها، أنها كانت حامية لمدينة جبيل ولملكها والضامنة للسلطة، وتعتبر في هذا السياق مسلة ملك جبيل، "يحوملك" (1900-1600ق.م.)، الشاهد على ذلك إذ تظهر الإلهة على العرش مرتدية اللباس الضيق وترفع يدها اليمنى للبركة وتحمل الصولجان في يدها اليسرى. ومثلها عشتار الصورية والصيدونية، كما الإغريقية-الرومانية ( سيبيل الفريجية Cybèle de Phrygie، وإلهة النصر المبرّج Tyché à la tour).
والجدير ذكره أن الإلهة إنانا-عشتار، هي الإلهة الوحيدة التي إجتازت العصور من دون أن تقلّ أهميتها، ولم تقف أمامها حدود البلاد الجغرافية، فإنانا-أوروك السومرية هي عشتار البابلية وعشتار نينوى الآشورية، و"أتراغتيس" السورية و"عشتروت" الفينيقية و"أشيرة" أو "عناة" الأوغاريتية و"سيبيل" الفريجية و"إيزيس" المصرية و"أفروديت" الإغريقية و"فينوس" الرومانية الخ. والملفت أن صورة الإلهة المبرّجة هذه أسبق زمناً على كل ما لحقها من تقليد ذكوري، سوف يعمّم لاحقاً ليصبح برج المدينة هو قبعة الملوك ورمز السلطة، ولعل عشتار هي الأقدم والأسبق باعتمارها البرج في وادي الرافدين على باقي الآلهة.
*أستاذة الآثار واللغات القديمة في الجامعة اللبنانية