الشعب ليس مجرد أرقام في دفاتر مبادراتكم

مشاركة


خاص اليسار

 

*الدكتور رائد المصري

بهدوء...فلا زالت سلطة الأحزاب الحاكمة في لبنان مُمْعِنة ومستمرَّة ومكابِرة ومتعنِّتة وتحكُمُها العنجهية والنظرة العنصرية الإستعلائية، بإعتبار أنَّ ما جرى لها أفقدها التوازن والسيطرة حتى فيما بين حلفاء الصف الواحد، وأتَتْ مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتشكِّل إنقلاباً موصوفاً فرنسياً أميركياً على جهاز الحكم في لبنان، تلِيها العقوبات الأميركية التي تمَّ طرحها والآتية قريباً بعدْ، في سلَّة وحدة وطنية من كلِّ الطوائف والمذاهب على شخصيات سياسية لبنانية حَكَمَت وتناسلت في حكمها، ولا زالت مصرَّة على ألتناتش والتحاصص من بقايا دولة، وهذا دليل ترهُّل وضَعف وإنعدام الصلاحية في البحث عن حلول آنية ومرحلية لن تنفع أهل الحكم في تقطيع الوقت، ريثما يُعَاد ترتيب النظام الإقليمي وتكون لهم الحصَّة الوازنة في مشروعهم التدميري الجديد.

فها هو الرئيس ماكرون قد إختار لحظة ضعفٍ في صفِّ فريق حز/ب الله وحلفائه للعمل على تغيير النظام أو إعادة إنتاج سلطة بنوه وحاكوا وجهه التسلُّطي الأحادي عبر تكريس دور حكم المصرف العميق وأدواته، وها هو الحاكم في بعبدا ميشال عون وتياره السياسي المضمحل إنفضَّت عنه الجموع كلّها، آخرها كان عند لحظة فقد التوازن بعد إنفجار مرفأ بيروت، فيما التيار القوي ونظريته الفئوية أفْقدت لبنان مسيحييه الى بلاد المهجر بعد أن حدَّدت لهم نسلهم في التكاثر قوانين "غازي كنعان" كمفوض سام للشؤون اللُّبنانية الدائم، كما اليوم يريد "برنار إيمه" تحديد نسل الفريق السياسي الآخر، عبر توسيع دائرة العقوبات على الفاسدين من القادة السياسيين وإحاطة لبنان بسياج حدودي محْكَم من كل الجهات، فهذا ما أرادته حيفا .

إنفجر مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) فأعلنت وفاة حكومة دياب كواقع وكنتيجة حتمية، وممَّا زاد التأزُّم والإنفعال هو ضعف المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه حز/ب الله، حيث لا يزال يعاني من توتر شديد وإنعدام في طرح المبادرات السياسية أو الإقتصادية لإخراج لبنان من حفرته، وليعتبر أنَّ التدخل الإلهي وحده وإنتظار المعجزات كفيل في إيجاد الحلول وترتيب التسويات شريطة تمرير الوقت بأقل الخسائر الممكنة، وهذا بدوره يزيد على ضعفهم ضعفاً وإرتباكاً، وليس أدل على ذلك من وقوعهم برد السريع الفعل عندما طرح الأميركي عقوباته على الوزير السابق علي حسن خليل، وإعلانهم التمسُّك الشديد بوزارة المال حتى لو تمَّ تدوير الوزارات بين الطوائف والمذاهب، وكأنَّنا اليوم أمام مشكلة تحاصص وتوزيع المنافع ونصف بيروت مدمر وثلث سكانها مهجَّر لا منازل له، وأكثر من 3 ملايين نسمة باتوا تحت خط الفقر...فعن أي إستراتيجية مقبلة تتحدثون وأي سياسة ترسمون لِلبنان والمنطقة للمواجهة الجديدة..؟ إنها حال إنعدام الرؤية عندما تفاجئك التحوُّلات وتزداد الثقة بالنفس والغلو في مقاربة قضايا البشر بإعتبارهم أرقام في دفاتر تسديد حساباتكم التي لن تنتهي، وربَّما أنْهيتم حكم الأمير قبلها في المكيافيللية وفن حكم المجتمعات الإنسانية في الكفاءة السياسية أو في السلوك العام، فحتى هذا التوظيف السياسي في المَكْر والإزدواجية لم يخطر ببال الدبلوماسي والكاتب نيكولو مكيافيلي في أن ينهي حكمه بيديه في كتابه الأمير وأنتم فعلتموها ...

لا يمكن لطبقة سياسية في لبنان تحكمها الشفافية وإحترام الذات وبعيدة عن التلوث السياسي أن يجمعها ماكرون ويأمرها وينذرها ويمهلها ويهشُّ عليها بعصاه مؤنِّباً، وقد جلس الجميع صامتاً صاغراً بمن فيهم النائب محمد رعد. أمّا الكلام الفرنسي عن حز/ب الله فلا يختلف في مقاصده عن الكلام الأميركي، فهم يعرفون أنَّ الأرضية التي ركَّزت حكم التسوية السورية السعودية الأميركية وبعدها تركيبة إتفاق الدوحة المشوَّه والذي أتى بالرئيس ميشال سليمان قد إنهارت بفعل ضرب الدستور، وتكريس الخطاب الفئوي والتحاصص المذهبي والطائفي، وتعميم ظواهر الفساد عبر مؤسسة مجلس النواب، وتوسيع صلاحيات حكم المصارف كحاكم فعلي في دولة إنتاجها ريعي، فأنهت حكم الأمير والإمارة والكيان..

أكثرية نيابية وحكومية تتبع لـ 8 آذار وحز/ب الله وحلفائه لم يعرفوا كيفية قيادة المعركة وإدارة البلد.فهل هذا يعني أنه ليس لديكم مشروع لا سياسي ولا إقتصادي سوى نفخ العضلات وإستعراض القوة وتهديد الناس بالخراب والجوع؟...

كيف لمشروع أُقِيم من أجل تحرير القدس ووقف الإنهزام أمام الأميركي والإسرائيلي ثم يقاتل من أجل مقعد وحقيبة وزارية مذهبية وبشعارات مذهبية؟ وكيف تحوَّلت الرؤية الإستراتيجية لديكم في التحرير من الخطاب الوطني والقومي الى خطاب تتولَّاه المقامات الروحية والدينية وتمدُّ خيوطها في التوغُّل الطائفي لترفع من مداميكه أكثر؟..

ألَم يكن مفيداً لكم خوض المعركة بعناوين وطنية إصلاحية أم أنَّكم غير قادرين وعاجزين..؟

لماذا وقعْتُم في فخِّ ردِّ الفعل الأميركي وذهبتم الى الزاروب المذهبي والطائفي بدَل خوض معركة وطنية وتأسيس جبهة وطنية عريضة لمقاومة الحصار الأميركي ومشاريعه..؟؟

قلناها سابقاً واليوم نقول: لقد سبقكم الشارع اللبناني في مشروعه السياسي رغم تبعثره لبناء دولة ووطن، لأن ليس لديكم مشروع ولا نهضة إقتصادية ولا جبهة إصلاح...لذلك خضتم معارك تثبيت الميثاقية المذهبية والطائفية وتخلَّيتم عن المشروع القومي الحاضن والأكبر داخل لبنان وخارجه.

إنَّ سقوط النظام المصرفي والمالي وتدمير المرفأ وضعا البلد في مكان آخر وخطير، وهو ما عجَّل بالمساعدة الخارجية الموقتة لبقائه، حيث أنه لن تتمكّن أي حكومة من إرساء أي حلّ جدّي، وأقصى ما تستطيع فعله هو تأمين عوامل الصمود إذا إستطاعت الى حين تظهّر الحل الإقليمي، ففي الداخل لا قراراً سيادياً في السياسة بل هناك قوى خارجية تقرّر ويُحدّدها توازن القوى.

فالحليف الروسي غالباً ما كان ولا يزال يعتبر أنّ لا حلّ في لبنان إلاَّ الحلّ السياسي، ويدعوا الجميع دائماً الى أن يتحاوروا في السياسة وأن ينتجوا حلاً. لكن الأمر الأكيد أنّه لا يوجد أي حل داخلي، ليتبيَّن أن غالبية الأفرقاء لديهم إرتباطات خارجية لا يُمكنهم التصرّف بمعزل عنها. إنّ الحل في لبنان لن يتظهّر إلّا عند نضوج الإتفاق الأميركي ـ الإيراني وفيه تنظيم حدود كلّ لاعب في الإقليم وتقسيم النفوذ في شرق المتوسط بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيران وحتى تركيا. وهو حل ليس بقريب لا بل أبعد من الإنتخابات الرئاسية الأميركية التي ينتظر نتائجها الجميع، فالمفاوضات والحلول لن تتظهّر بعد هذه الإنتخابات مباشرةً بل تتطلّب وقتاً خصوصاً إذا حصل تغيير في الإدارة الأميركية.

 

*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية







مقالات ذات صلة