العلماء يحذرون...المحيطات تختنق!
رصد وترجمة: سوزان أبو سعيد ضو
تتطلب العديد من الأنشطة الحيوانية كالإفلات من الحيوانات المفترسة والهضم وغيرها، كما هو الحال مع الأنشطة البشرية المختلفة، وجود الأوكسجين، لكن أظهرت العديد من الدراسات الجديدة أن هذا المكون الأساسي للحياة لم يعد متوفرا في البيئة البحرية في مختلف المحيطات والبحار حول العالم، أو أن المحيطات وكائناتها... تختنق!!
وقد نشرت مجلة Scientific American مقالا بتاريخ 25 شباط/فبراير للكاتبة Laura Poppick تحت عنوان " العلماء يحذرون...المحيطات تختنق!" The Ocean Is Running Out of Breath, Scientists Warn، ولأهمية هذا المقال ننشر أول ترجمة له باللغة العربية، لما تناولته الكاتبة من جوانب علمية هامة، خصوصا لجهة المحافظة على البيئة البحرية وتنوعها، والحد من الممارسات الخاطئة التي يمكن أن تحول مسطحاتنا المائية إلى "مناطق ميتة" أسوة بخليج المكسيك كما ورد في المقال!
مقدمة
في العقد الماضي، أخذت مستويات الأكسجين في المحيطات تنخفض بوتيرة متسارعة، وهو اتجاه ينذر بالخطر ويرتبط بتغير المناخ، وذلك وفقا لـ أندرياس أوشليس Andreas Oschlies، وهو متخصص في علم المحيطات في مركز هيلمهولتز لبحوث المحيطات Helmholtz Centre for Ocean Research في ألمانيا، والذي تتبع مع فريقه العلمي مستويات الأوكسجين في كافة أنحاء العالم، وقال: "لقد فوجئنا بشدة بالتغيرات التي رأيناها، ومدى سرعة انخفاض مستويات الأوكسجين في المحيطات، ومدى تأثير هذا الأمر على النظم البيئية البحرية".
لم يكن من المستغرب للعلماء أن عملية تسخين واحترار المحيطات يفقدها الأوكسجين ، لكن مدى الانخفاض يدعو إلى الانتباه العاجل، حسب قول أوشليس، فقد أظهرت دراسات حديثة أن مستويات الأوكسجين في بعض المناطق الاستوائية قد انخفضت بنسبة مذهلة بلغت 40 بالمئة في السنوات الخمسين الماضية، وقد انخفضت مستويات الأوكسجين بمتوسط 2 بالمئة على مستوى العالم.
وتستجيب حيوانات المحيط الكبيرة والصغيرة، لتغيرات طفيفة في الأوكسجين وذلك بالبحث عن ملجأ في مناطق يتواجد فيها الأوكسجين بنسب أعلى، أو عن طريق تعديل سلوكها، وقد وجد أوشليس وغيره من الباحثين في هذا المجال، أنه يمكن لهذه التعديلات أن تعرض الحيوانات للإفتراس من قبل حيوانات مفترسة جديدة أو تجبرها على الدخول إلى مناطق شحيحة بالأوكسجين، وتتسبب ظاهرة تغير المناخ بالفعل بمشكلات خطيرة للحياة البحرية، مثل تحمض المحيطات، لكن إزالة وشح الأوكسجين هي أكثر القضايا إلحاحًا التي تواجه الحيوانات البحرية اليوم ، كما يقول أوشليس، "في النهاية كل الحيوانات يجب أن تتنفس".
التأثير على السلسلة الغذائية
يفقد المحيط الحار الأوكسجين لسببين: أولا ، فكلما أصبح السائل أكثر دفئا ، كلما قلت كمية الغاز التي يمكنه الاحتفاظ بها، هذا هو السبب في أن المشروبات الغازية تفقد الغاز بشكل أسرع عند تركها في الشمس، كما يقول أوشليس، ثانياً، مع ذوبان الجليد القطبي البحري، فإنه يشكل طبقة من الماء الطافي على سطح البحر فوق المياه الباردة والأكثر ملوحة، هذه العملية تخلق نوعًا من الغطاء العازل الذي يمكن أن يمنع التيارات من خلط المياه السطحية إلى مناطق أكثر عمقًا، ولأن الأوكسجين يدخل هذا الملاذ للحيوانات من سطح المياه - إما مباشرة من الغلاف الجوي أو من العوالق النباتية التي تنتجها في السطح أثناء عملية التمثيل الضوئي – فإن هذا يعني اختلاطا أقل أن الأوكسجين يصبح أقل في العمق وفقا لـ أوشليس.
وتابع أوشليس: "في هذا السياق، فهناك بعض المناطق الساحلية حول خط الاستواء هي بطبيعة الحال (نقاط ساخنة) Hot Spots منخفضة بالأوكسجين، كونها تحتوي على مياه غنية بالمغذيات حيث تستهلك هذه النموات الضخمة من الطحالب Algal Bloom الأوكسجين كونها تحلل الحياة البحرية الميتة، وتستخدمها لنموها وتكاثرها، ولكن التحولات في النظم البيئية في أماكن أخرى - بما في ذلك في المحيطات المفتوحة وحول القطبين – هي التي يهتم ويتخوف منها أوشليس وغيره لأن هذه المناطق لم تعتبر في الماضي مهددة، كما أن النماذج المناخية التي تشير إلى التغيير المستقبلي قللت بشكل روتيني من خسائر الأوكسجين التي لوحظت بالفعل في محيطات العالم ، وهو ما لفت إليه أوشليس وزملاؤه في مجلة Nature في العام الماضي - وهذا سبب آخر يدعو إلى المزيد من الاهتمام والبحث في هذه المناطق أيضا.
العوالق
وقامت الباحثة كارين ويشنر Karen Wishner، وهي خبيرة علوم المحيطات بجامعة رود آيلاند بتوثيق آثار الانخفاضات الدقيقة للغاية في الأوكسجين على العوالق الحيوانية – وهي الحيوانات في قاعدة الشبكة الغذائية - في عمود الماء في تقرير لدورية "تقدم العلوم" Science Advancesفي كانون الأول/ديسمبر 2018، وقالت "إنها حساسة للغاية، وأكثر بكثير مما توقعت" وأشارت إلى أن "بعض الأنواع تسبح نحو مياه أعمق وأكثر برودة مع مزيد من الأوكسجين،لكن في مرحلة ما، لم ينجح الأمر بالنسبة لها في الغوص أعمق، لأنه قد يكون من الصعب العثور على الطعام أو التكاثر في المياه ذات درجات الحرارة المنخفضة"، ولحظت أن العديد من الحيوانات المفترسة - بما في ذلك الأسماك والحبار والحيتان - إما أن تأكل العوالق الحيوانية أو تأكل الأسماك التي تأكل العوالق الحيوانية، لذلك فإن الطرق التي تتجه بها العوالق الحيوانية وسلوكياتها المختلفة، سيكون لها تداعيات على الشبكة الغذائية.
تحديات فيزيولوجية
وقد أفادت دراسة تناولت سلوك وعلم الأحياء في دورية سلوك وفيزيولوجية المياه العذبة والبحرية Marine and Freshwater Behavior and Physiologyالشهر الماضي، أنه بالإضافة إلى اضطرابات الشبكة الغذائية، تواجه الحيوانات العديد من التحديات الفيزيولوجية الأخرى، حيث تتكيف أجسامها مع مستويات الأوكسجين الأقل، فالروبيان الصيني على سبيل المثال، يحرك ذيله بقوة أقل للحفاظ على الطاقة في البيئات التي تحتوي الأوكسجين بكميات أقل، ما يجعل هذه الحيوانات أقل مرونة نتيجة لذلك، كما أن بعض ذكور الأسماك تنتج الحيوانات المنوية بصورة أقل مع انخفاض مستويات الأوكسجين، ويبدو أن الاتجاه لا يستعاد في الأجيال القادمة عندما تتحسن مستويات الأوكسجين، وفقا لباحثين في دورية Nature Communicationsالعلمية في العام 2016.
تقول ليليان ماكورميك Lillian McCormick وهي طالبة دكتوراه في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو ، إن الوظائف الحسية الأساسية مثل الرؤية والسمع قد تعاني أيضًا في المحيط المستنفد للأوكسجين. وتشير النتائج الأولية بعد بحث في هذا المجال، إلى أن انخفاضا ولو بنسب دقيقة في الأوكسجين تؤثر على بعض العوالق الحيوانية. (يحدث هذا أيضًا لدى البشر، مع وجود أدلة على الأشخاص الذين يسافرون على ارتفاعات عالية يعانون من انخفاض في الرؤية الليلية واللونية)، إذ تعتمد العديد من أنواع العوالق الحيوانية على الإشارات البصرية للهجرة إلى أسفل عمود الماء كل صباح لتجنب الحيوانات المفترسة، وبالتالي قد يؤدي فقدان البصر إلى إعاقة وقد تقل قدرتها على التقاط إشارات الضوء هذه.
أما براد سيبل ، المتخصص في علم المحيطات بجامعة جنوب فلوريدا، والذي عمل مع Wishner في الدراسة الأخيرة حول العوالق الحيوانية، فأشار إلى أن "بعض المخلوقات، مثل قناديل البحر ، تتمكن من التعايش مع انخفاض الأوكسجين مقارنةً بالكائنات الأخرى، لكن كافة الحيوانات ستشعر بتأثير إزالة الأوكسجين لأنها طورت قدراتها على وجود الأوكسجين لسبب ما، وقال: "أي انخفاض في الأكسجين سوف يضعف القدرة على البقاء والأداء".
تقلص الموائل
ومع زيادة ندرة المناطق الغنية بالأوكسجين، ستتقلص موائل الأسماك الحالية وتضطر إلى إجبار الأنواع المهمة اقتصاديًا - مثل التونة ، التي تولد عالميًا تقديريًا 42 مليار دولار سنويًا - إلى الإتجاه نحو نطاقات جديدة، وقد في وجد الباحثون شمال شرق المحيط الأطلسي، موطنًا للتونة ، كما تقلصت مصايد الأسماك بنسبة 15 بالمئة من عام 1960 إلى 2010 (pdf) بسبب فقدان الأوكسجين.
كما يمكن أن تواجه مصايد السواحل الضغط الإضافي الناجم عن الجريان السطحي للمخصبات الزراعية، ما يؤدي إلى نموات كبيرة في الطحالب Algal Bloom والتي تستهلك كميات كبيرة من الأوكسجين أثناء تحللها، كما هو الحال في خليج المكسيك بالقرب من مصب نهر المسيسيبي، (صورة المقال الرئيسية)، حيث تحولت المنطقة إلى ميتة، لا تحتوي على حياة تذكر، وتجبر هذه "المناطق الميتة" بعض الأسماك على البحث عن مناطق ذات تراكيز أوكسجين أعلى على حواف نطاقاتها النموذجية، وهذا يمكن أن يساعد الصيادين في العثور عليها وصيدها لأن الأسماك تتجمع في هذه المناطق المكثفة، وقد يوفر أيضًا شعورا زائفًا بوفرة الصيد إلا أنه لن يكون مستدامًا على المدى الطويل،كما يشير سيبل.
ولمواجهة مشكلة "إزالة الأوكسجين" deoxygenation problem الشاملة، ساعد أوشليس بتنظيم مؤتمر في أيلول/سبتمبر الماضي في كييل، قام الحاضرون بصياغة إعلان مرتجل يطلق عليه إعلان كييل Kiel Declaration on Ocean Deoxygenation يتعلق بـ "إزالة الأوكسجين" في المحيطات"، من أجل زيادة الوعي بين الحكومات الدولية والأمم المتحدة والجمهور، بالإضافة إلى الدعوة إلى اتخاذ إجراء فوري، إذ يريد العلماء من الحكومات والمجموعات الدولية اتخاذ خطوات أكثر جدية لإبطاء تغير المناخ، والحد من تلوث مياه الجريان الساحلي، الذي يؤدي إلى تفاقم تدهور الأوكسجين، وقد عدل الباحثون نموذج الإعلان الجديد على نسق إعلان موناكو Monaco Declaration، والذي يعتقد أوشليس أنه ساهم بنجاح في زيادة الوعي الدولي حول تحمض المحيطات في عام 2008.
"من المهم حقاً أن يكون هذا الأمر طارئا وتنبيهًا للجمهور وللوكالات الحكومية والدولية المختلفة على حد سواء بأن هذه قضية مهمة"، قالت ويشنر وهي واحدة من أكثر من 300 عالم من أكثر من 30 دولة قاموا بالتوقيع على إعلان كييل، أما سيبل، وهو أيضا من الموقعين على الإعلان فقال: "أعتقد أنه من المحتمل أن تكون الأمور سيئة للغاية".
تمت الترجمة بتصرف عن Scientific American